Saturday, September 27, 2014

من نوادر جرير والفرزدق

النقائض هي قصائد الهجاء التي وقعت في العصر الأموي بين جرير والفرزدق، وبالرغم من أن كليهما من قبيلة تميم، إلا أنهما من بطنين مختلفين، مما سبَّب عداوة بينهما، فكان كل واحدٍ منهما يهجو الآخر ويمدح نفسه.
وداما على ذلك لنصف قرن من الزمن إلى أن مات الفرزدق رحمه الله.

ولقد حاول الراعي النميري الدخول بينهما لكنه هلك، وجلب الرزية والخزي إلى قبيلته، حتى كانوا إن سُئل أحدهم ممن أنت؟ يقول من بني عامر، فيتجاوز جده نمير، خشية المذمة.
وذلك أن الشعراء كانوا يتنافسون في البصرة، حلبة الشعراء تلك الأيام، وكانوا يتبارون في المربد، وهو سوق كسوق عكاظ في الجاهلية.

فجاء عرادة النميري (نديم الفرزدق) واتخذ طعامًا وشرابًا ودعا إليه الراعي النميري عند قدومه البصرة.
والراعي هو عبيد بن حصين النميري ويكنى بأبي جند، شاعرٌ فحلٌ، اشتُهر بالوصف والمدح والهجاء.
قال له عرادة: يا أبا جندل، إنك من شعراء الناس، وأمرك ضخم بينهم، فقل شعرًا تفضِّل به الفرزدق على جرير!

فامتنع الراعي في بادئ الأمر، غير أن صاحبه ما زال يُزيِّن له ذلك حتى قال الراعي النميري:
ياصاحِبَي دَنا الأصيلُ فَسيرا     غَلبَ الفَرزدقُ بِالهجاءِ جَريرا

طار عرادة النميري فرحًا بذلك البيت وعدا به إلى الفرزدق وأنشده إياه. فترامى الخبر بعد أيام إلى جرير فتحسب له جرير حتى لقي الراعي النميري راكبًا بغلته، فتعرض له قائلًا:
أنت شيخ مضر وشاعرهم وقولك مسموع فيهم، فمهلًا أبا جندل مهلًا، ويكفيك إذا ذُكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم. وكان جرير عاقلًا لا يبغي هجاء النميري، وكان واضعًا شماله على بغلة أبي جندل.

فبينا أبو جندل يعتذر لجرير عن البيت الذي نصر فيه الفرزدق، إذ أقبل جندل راكبًا بغلته، فسأل عن محدث أبيه فلما علم أنه جرير، رفع عصًا كرمانية كانت في يده وضرب عجز بغلة أبيه قائلًا:
لا أراك يا أبتاه واقفًا على كلب من بني كليب، كأنك تخشى منه شرًّا أو ترجو منه خيرًا!

فاندفعت البغلة مسرعة وقد رمحت جريرًا فسقطت قلنسوته سقطة مشؤومة، وتبعها هو إلى الأرض فقال في نفسه وهو واقفٌ ينظفها وينظر إلى الفتى وأبيه وقد أوشكا أن يتواريا في السواد:
             ليعلمن شأنه وشأن أبيه وقومه بعد حين.

وذهب جريرٌ إلى راويته، وكان له مولى لبني كليب، كان يحب شعر جرير ويجمع قصائده ليحفظها ويرويها في الناس. فقال له جرير: آتيك الليلة فأعد لي شواء وفراشًا ونبيذًا محشفًا.

فجعل جرير يهمهم فسمعته عجوز بالدار فاطلعت في الدرجة فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه.
فقالت: أدركوا ضيفكم فقد جُن!
فقالوا لها: اذهبي لطيتك، نحن أعلم به وبما يمارس.
فما زال كذلك حتى كان السَّحَر ثم إذا هو يكبر وقد قال ثمانين بيتًا.

ولما ختمها بقوله:
فَغُض الطرفَ إنك من نميرِ     فَلا كعباَ بَلَغتَ ولا كِلابا
كبر وقال: أخزيته ورب الكعبة.

فذهب من يومه التالي فألقى بالقصيدة على مسع الناس والراعي والفرزدق، فنكس الفرزدق والراعي وسكت الحضور، فقال الراعي لقومه: ليس لكم مقام هاهنا، فضحكم والله جرير.

فقال القوم: شؤمك وشؤم جندل ابنك.
فما اشتغلوا بشيء غير ترحلهم، قالو: فسرنا والله إلى أهلنا سيرًا ما ساره أحد إلى دار بني نمير، فما وصلوا حتى وجدوا في أهلهم قول جرير:
فَغُض الطرفَ إنك من نميرِ     فَلا كعباَ بَلَغتَ ولا كِلابا

يتناشده الناس، وأقسم بالله ما بلغه إنسان قط، وإن لجرير لأشياعًا من الجن، فتشاءمت به بنو نمير، وسبوا الراعي وسبوا ابنه.

من كتاب "الدرس الأخير"
تأليف: سلطان الوجيه

1 comment: